تسييس الثقافة- صناعة النخب وتهميش المبدعين الحقيقيين

المؤلف: د. عمار علي حسن10.28.2025
تسييس الثقافة- صناعة النخب وتهميش المبدعين الحقيقيين

إن تهميشَ الكُتّاب، والمفكرين، والفنانين المبدعين في حقول الآداب والفنون، لا يعزى بالضرورة إلى ضآلةِ جودةِ إنتاجهم، أو تقاعسهم عن الترويج لأعمالهم، أو حتى غلبةِ مشقاتِ الحياةِ اليوميةِ على اهتمامهم بتحسين مستوى إبداعهم أو البحث عن وسائل مبتكرة لعرضه على الجماهير الواسعة. بل إن هذا التهميش قد يرجع إلى عوامل تتجاوز قدرتهم، وتكمن في تضافر الظروفِ المعاكسة ضدهم، أو إقصائهم بفعلِ قوةٍ قادرة على إرساءِ ثقافةٍ معينة، أو تبني ثقافة أخرى والترويج لها بحماس بالغ، والدفاعِ عنها بكل ما أوتيت من قوة.

هندسة الثقافات

إن النظرَ إلى الثقافةِ بوصفها أداةً للهيمنة، أو وسيلةً لتحقيق المكاسب الاقتصادية، أو حيازةِ السلطةِ والنفوذِ الاجتماعي، قد جعل الساعين إلى بلوغ هذه الغايات، شديديَ الاهتمامِ والتركيزِ على محاصرةِ أي ثقافةٍ تتعارض مع أهدافهم، وإقصاءِ كل مثقف لا يقدم لهم ما يخدم مصالحهم. وفي المقابل، فإنهم يدعمون بكل قوة أي خطاب، أو رؤية، أو فلسفة تساعدهم على فرض توجهاتهم، بل إنهم يقومون بصناعة هذه الثقافة وتشكيلها في كثير من الأحيان.

ولا يقتصر هذا الأمر على سلطات الدول، لاسيما في الأنظمةِ المستبدةِ والشاملة، بل إنه يمتد ليشمل الاستراتيجياتِ العالميةِ الهادفةِ إلى بسط النفوذ. فنشرُ الشيوعيةِ كان جزءًا لا يتجزأ من مساعي الاتحاد السوفياتي المنهار لتعزيزِ وجوده المادي في مختلف أنحاء العالم.

وفي المقابل، فإن توظيف الثقافة الليبرالية ما زال يشكل دعامةً أساسيةً من دعائم السياسة الرأسمالية الغربية بشكل عام، والأميركية على وجه الخصوص، حتى وإن شاب هذا المسار بعض مظاهر التضليل والخداع والمكر. وقد أدركت الصين أهمية الثقافة في تهيئة الأرض لتوسيع مشروعها، الذي يهدف إلى أن تصبح قوة عالمية عظمى، سواء في نظام عالمي ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب؛ طمعًا في أن تتربع منفردة على عرش الساحة العالمية في المستقبل، لذا فقد بدأت مؤخرًا في إنشاء جماعات ومؤسسات ثقافية، خاصة في قارتي آسيا وأفريقيا، تدور في فلكها.

وقبل ذلك، كانت هناك رؤيتان تحكمان نظرة القوى الاستعمارية إلى مسألة الثقافة، الرؤية الفرنسية التي سعت إلى اقتلاع ثقافات البلدان المستعمرة، واستبدالها بالثقافة الفرنسية قسرًا. والرؤية الإنجليزية التي عملت على هندسة الثقافات، بهدوء ولطف، استنادًا إلى المبدأ الجوهري للإمبراطورية البريطانية وهو "فرق تسد"، وبما يخدم الهدف الأساسي للبريطانيين، وهو الاستيلاء على الموارد الاقتصادية.

نخب مصنوعة

إن هذه الرؤى لا تنطلق في الفراغ، ولا تقتصر على مجرد الأمنيات والرغبات والتطلعات، بل إنها تتحول إلى إجراءات ملموسة، وكل إجراء يجذب إليه أتباعه، وكل هدف يستقطب المؤيدين له، ليس بالضرورة عن قناعة تامة، بل لتحقيق مصلحة ما. فالإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وقبلهما إنجلترا وفرنسا، كان لديهم نخب شجعوهم، أو صنعوهم على مرأى ومسمع منهم، لحمل الأفكار ونشرها في المجتمعات كافة، ووفروا لهؤلاء النخب مؤسسات وهيئات، ومنحوا لهم منابر ومنصات ومطبوعات ليتصدروا المشهد من خلالها، وتم في الخفاء وبطرق ملتوية، تصدير ما ينتجونه إلى الناس، الذين لم يكن بمقدور غالبيتهم العظمى أن يدركوا الصلة الوثيقة التي تربط هؤلاء النخب بمشاريع الهيمنة المختلفة.

وقد سارت العديد من الحكومات التي تشكلت في دول العالم الثالث بعد الاستقلال على هذا النهج ذاته، إذ كان عليها أن تبحث عن أشخاص يحملون خطابها إلى الجماهير، أو من يقومون بإنتاج خطاب يهدف إلى تبرير تصرفات صناع القرار وتدابيرهم، وتجميل صورتهم، والترويج للواقع القائم والمتاح للناس باعتباره أفضل ما يمكن الوصول إليه، ثم دعوتهم إلى التحلي بالصبر على الفقر والظلم والإهانة.

ولأن من مصلحة الساعين إلى الهيمنة أو التحكم، سواء كانوا يمثلون قوى استعمارية، أو شركات متعددة الجنسيات، أو تنظيمات تتجاوز الحدود، أو أيديولوجيات معينة، أن يكون الموالون لهم في طليعة المشهد، حتى يضمنوا انتشارًا واسعًا لخطابهم، فإنهم يبذلون قصارى جهدهم، ويسخون بالمال والجهد من أجل وضع هؤلاء في صدارة الأحداث، وصناعة رموز منهم، وفقًا للآليات المعروفة في صناعة النجوم، مما يضمن أن العائد من وراء هذا الاستثمار، مهما بلغت تكلفته، سيكون كبيرًا ومجديًا.

لا يخلو عصر من العصور من وجود أمثال هؤلاء الذين يتبوؤون مكانة متقدمة في المشهد الثقافي بتدبير وتخطيط مسبق، وربما بتآمر، على الرغم من أن أمثال هؤلاء المتصدرين غالبًا ما لا يمتلكون إنتاجًا ثقافيًا عميقًا وراسخًا وغزيرًا ونافعًا للناس، بما يجعلهم جديرين بتولي الصدارة، أو مستحقين لانتشار ما يقولونه أو يكتبونه أو يرسمونه على مسامع الناس وأعينهم في كل لحظة.

كما أن هذا السلوك ليس بجديد على الإنسانية، فمنذ العصور الغابرة، كانت السلطة السياسية تتدخل لنصرة فكرة على أخرى، ومذهب على آخر، وأصحاب رؤية على منافسيهم أو المختلفين معهم. وليس هناك دليل على هذا في تاريخ الحضارة الإسلامية أبلغ من تبني الخليفة العباسي المأمون للمعتزلة، ثم تراجعهم بعده، وتفضيل أغلب الخلفاء للأفكار التي كانت تدعو إلى طاعة ولي الأمر، أو على الأقل تلك التي لا تقدم رؤى مناهضة له.

المبدع الحقيقي

وفي العصور القديمة، كانت ظروف معينة، تفرضها سلطة الحكم والمال، تتحكم في مصير المثقف، سواء كان شاعرًا أو كاتبًا نثرًا أو عالمًا، مما يجعل أشخاصًا أو فكرة أو مذهبًا أدبيًا وثقافيًا أو مسارًا علميًا يسمو على ما عداه. فالكتاب الذي كان يحظى بإعجاب الخلفاء والأمراء والأثرياء، كانوا يدفعون للوراقين والناسخين ما يكفل إنتاج نسخ عديدة منه، تنتشر على أرفف المكتبات وبين أيدي المؤلفين المعاصرين واللاحقين، مما يمنح الكتاب وصاحبه فرصة للخلود والبقاء. وعلى النقيض من ذلك تمامًا، كم من كتب قيمة لم يتمكن مؤلفوها من إعداد نسخ كافية منها، فتآكلت النسخ القليلة المتاحة، ثم ضاعت، وأصبحت في طي النسيان.

وقد تكرر هذا الأمر في جميع الحضارات، وخاصة قبل اختراع المطبعة، أما بعد ذلك، فقد ظهرت أسباب جديدة إضافية، لتفضيل ثقافة على أخرى، ومثقف على آخر، ومن بين هذه الأسباب الأيديولوجيات التي دفعت بأتباعها إلى توسيع الطرق أمام الكتاب المنتمين إليها، والرفع من شأنهم، وتقديمهم على أولئك الذين هم أكثر منهم موهبة، وأغزر إنتاجًا، وأفيد للناس.

وعلى الرغم من أن فرض الأسماء والأفكار الموالية للمشاريع الاستعمارية أو السلطة أو الأيديولوجيات أو تلك المشمولة برعاية الأموال على حساب أصحاب الحق والجدارة، قد يبدو عملية مؤقتة، حيث أن الإبداع الحقيقي هو ما يبقى في النهاية، إلا أن مثل هذه التصرفات لطالما ألحقت الظلم بالكثير من المثقفين في مسيرتهم، وألقت بهم في دائرة التهميش الباردة.

إن المبدع الموهوب الحر أو المستقل، والمُنحاز إلى قضايا الناس، يجب عليه أن يبذل جهدًا مضنيًا، وأن يجمع دومًا بين الجدية والإتقان والتجديد، سعيًا إلى البقاء في قلب المشهد وعدم إقصائه إلى الهامش، أو الغرق في الظلام الدامس. وإذا كانت قلة من المبدعين تصمد وتقاوم وتراهن على وعي الناس وتنتصر لإبداعها، فإن الأغلبية تنكسر وتستسلم لليأس، وتكون الثقافة هي الخاسر الأكبر، والمجتمع هو الأكثر تضررًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة